--------------------------------------------------------------------------------
+
----
-
منقول .عاصم السيد
الشهيدة المصرية الصيدلانية المحجبة مروة الشربيني، إنسانة مُتَحَضِّرَةٌ متعلمة مثقفةٌ متزوجة من مصري نابهٍ، يُعِدُّ الدكتوراه في الهندسة الوراثية، ليكون باحثًا وعالمًا متميزًا، تصوَّرَتْ هذه المسكينة حسنةُ النية أنها حينما تطالب بحق ابنها الطفل في أن يلعب بالأرجوحة في الحديقة في إحدى مدن الحضارة الغربية وهي مدينة "دريسدن" الألمانية على حساب رجل ألماني "طويل وعريض" أنها ستجد هذا الألماني "ابن الحضارة الغربية" منطقيًا عقلانيًا متفاهمًا متحضرًا، ولم يدر بِخَلَدِها أنها ستجد عكس ذلك على طول الخط، وأن العقلانية والرُّشْدَ والمنطق والسلوك المتحضر سيحل محلهم الجهل والتعصب والعنصرية وضيق الأفق وقلة الحياء وقلة الأدب، بل لم تتصور أن الأمور ستسير كما سارتْ لتدفع حياتَها في النهاية على يد هذا المتطرف الغبي.
حينما قررت الشهيدة المحجبة مروة الشربيني أن تقاضي هذا الألماني المتطرف، كانت تنطلق من أُسُسٍ حضارية وأخلاقية تعلَّمَتْهَا من دينها، فلم تَرُدَّ عليه ولم تحضر له زوجها أو "أحد الفتوات" لضربه، وأَخْذِ حقها منه باليد وبالقوة، وإنما رفعتْ عليه دعوى قضائية واحتكمت إلى القانون، لكنّ هذا المتطرف أثبت أنه يُعَبِّرُ عن وجه آخر، وعن قطاعٍ آخَرَ من الغربيين العنصريين الذين ليس للحضارة أيُّ تأثير على سلوكهم وأخلاقهم، فلم يُعْجِبُه ذلك، وإنما تفرّغ لمطاردتها ونَزْعِ الحجاب من فوق رأسها كُلَّما ذهبت مع ابنها إلى الحديقة، وفي كل مرة يَسُبُّها ويصفها بالإرهابية؛ لأنها ترتدي هذا الرمزَ الإسلامي الغالي الذي يدل على العفة والطهارة والرُّقِيِّ والسمو. في كل مرة كانت مروة الشربيني تستغرب هذا السلوك المتدني لكنها كانت تعتصم بدينها وأخلاقها وتترفع عن جهل الجاهلين الأغبياء.
لم تتوقع مروة أن يكون حكم القضاء الألماني لها هو تغريمَ هذا الألماني المتطرف بـ750 يورو فقط، فما حدث منه هو اعتداء على حرية إنسانة وسبها ومطاردتها وارتكاب جرم نزع الحجاب عنها ووصفها بأنها إرهابية، فهذا الجرم لو كانت هناك عدالة حقيقية وعدم تمييز وانحياز إلى العرق الأبيض والجنسية الألمانية، فربما استقر في وجدانها أن الأمور لو كانت معكوسة لحكم القضاء الألماني على العربي المسلم بأضعاف أضعاف هذا المبلغ وربما بعقوبة السجن.
ورغم ذلك قبلت الحكم، واستأنفه ذلك المتطرف، لكنّ يوم الاستئناف كان هو يوم العارِ والفضيحة، فقد تمكن هذا المتطرف من التربُّصِ بالمسلمة المحجبة وقام بِطَعْنِها عدة طعنات داخل مبنى المحكمة، المفترض أن يكون مُؤَمَّنًا، ويرديها قتيلة في الحال، بل وصل الانفلات والتسيب أن يتمكن هذا القاتل المتهور من زوج الشهيدة مي ويوجه إليه عددًا من الطعنات فيصيبه هو الآخر. فما الذي جنته هذه السيدة الفاضلة ليكون مصيرها هذا الغدر وهذا الحقد وهذه الكراهية؟
التساؤلات والشكوك لدينا كثيرة ومتعددة، فكيف سمحت السلطات الألمانية لمتهم في ساحة المحكمة بدخول ساحة العدالة بالسلاح الأبيض؟ ولماذا لم تستطع الشرطة الألمانية توفير الحماية لمروة الشربيني وزوجها؟ ولماذا تركت هذا المتهم القاتل يوجه كل هذه الطعنات للقتيلة ثم يستدير لزوجها؟ هل كان القوم يتفرجون؟ أم كانوا يريدون إتاحة الوقت له لإكمال جريمته؟
ويتلاحَقُ مسلسل اللامنطق، الذي يُثِير الرِّيبة والشكوك عندما تَدَخَّلَتِ الشرطة، فتصيب الزوجَ بطريق الخطأ برصاصة في ساقه (كما يدَّعُون)، بدلًا من أن تكون الرصاصات في جسد هذا المتطرف المجرم؛ ليروح الزوج في غيبوبة لا يَدْرِي على إثرها أن زوجته قد لاقت حَتْفَها وانتهت حياتها.
هذا الحادث الأليم كشف المجتمع الألماني، والغربِيَّ عمومًا، وتركه عاريًا؛ ليُؤَكِّدَ أن ثقافة العنف وبَثِّ روح الكراهية والتطرف، ثقافة مُتَأَصِّلَةٌ في هذه المجتمعات، وأن القيم الغربية التي طالما تغنَّى بها الغرب، مثل حرية العقيدة والتعايش السلمي واحترام حريات الآخرين .. الخ، كل ذلك تأكد أنه غير حقيقي، وأن المجتمع الغربي لو طبق ذلك على المواطن الغربي فمن الصعب تطبيقه على غير الغربي، خاصة إذا كان مسلمًا.
من حق الحكومة الألمانية والسفير المصري تبريرُ الحادث بأنه مُجَرَّدُ مشاجرة عادية تحدث في كل مكان وفي كل بلد، فهي تحدث بين الألمان أنفسهِم، أو بين المصريين أنفسهم، وبدورنا نتمنى أن يكون ذلك صحيحًا وحقيقيًا، لكن تناول الصحف الألمانية لوقائع الحادث يُثْبِتُ أن القاتل مُتَطَرِّفٌ ألماني معادٍ للإسلام، وأنه اعتاد مضايقةَ الشهيدة مروة بسبب زِيِّهَا الإسلامي.
المؤشرات على أن الجريمة ارتكبت على خلفية معاداة الأجانب، خاصة المسلمين، مؤشرات قوية تؤكدها حوادث مماثلة في بلاد أوروبية متعددة، ومن هذه المؤشرات تصريح برند مربيتس رئيس الشرطة في ولاية سكسونيا الألمانية بأن هناك بعض الدلائل التي تعزز من وجود خلفية معاداة الأجانب وراء الحادث.
رَدُّ الفعل الألماني على الحادث يُثِير الغيظ، فلو أن هذا الحادث وقع لمواطنة ألمانية في مصر لاهتزَّتْ ألمانيا بأسرها له بل واهتزت أوروبا كلها والغرب، ولخرجت الصحف والمجلات والمحطات التليفزيونية ووكالات الأنباء لتناقش الحادث من جميع جوانبه، مستبقة التحقيقات، واصفة بلادنا ومجتمعاتنا بكل الأوصاف السلبية والمتخلفة مثل العنصرية.. والتطرف.. والهمجية.
الشكوك التي لدينا في الأمر بِرُمَّتِه ستكون على الْمِحَكِّ في طريقة محاكمة هذا المجرم القاتل، وفي العقوبة التي ينالها جزاءً وفاقًا على هذا الجرم.
ومرةً أخرى، نُذَكِّرُ الألمان والغربيين جميعًا الذين يعترضون على عقوبة الإعدام أنّ أية عقوبة بالسجن هل تكون عادلةً لمن أزهق نفسًا وروحًا وزوجة وأمًا، ولمن أحدث بجانب ذلك عاهةً مستديمة في زوج وأب، قد تَعُوقه عن مواصلة أبحاثه وإبراز تفوقه وتميزه العلمي؟
ونذكر الألمان والغربيين كذلك بأن هذه الجريمة لو تَمَّتْ عندنا في العالم العربي والإسلامي فإن القاتل من أبناء بلادنا يقتل بالغريب من أهل الغرب، فنحن، رُغْمَ ما بنا من الضعف، أكثرُ صدقًا مع أنفسنا، وقيمنا حقيقيةٌ، وليست مُزَيَّفَةً، وعادلةٌ وليست عوراء.
ثم نصل في النهاية إلى خلفية كراهية الحجاب التي كانت حاضرةً في هذا الحادث الأليم، فقادة الغرب السياسيين والفكريين والإعلاميين قادوا حملةً في السنوات الأخيرة التي قوي فيها الوجود الإسلامي في الغرب والتي انتشر فيها في أوروبا والولايات المتحدة الحجاب والنقاب، وكان الغرض من هذه الحملة هو مَنْعَ انتشار هذه الظاهرة ومحاصرةَ هذا الرمز الإسلامي، وتشويهَ الإسلام لتخويف الغربيين من اعتناقه، بعدما أكَّدَتِ الدراسات زيادةَ أعداد الغربيين المعتنقين للإسلام بصورة مُطَّرِدة، وأن الإسلام هو أكبر الأديان انتشارًا في أوروبا.
هذه الحملات المتواصلة، ومعها القوانين التي تمنع ارتداءَ الحجاب في دول مثل فرنسا، بالإضافة إلى التشويه الْمُتَعَمَّدِ في مناهج التعليم في المدارس والجامعات للإسلام وشريعته وقِيَمِه، وكذلك التشويه الْمُتَعَمَّد في الأعمال الفنية في الأفلام والمسلسلات، كل ذلك كان وسيظل هو الزادَ الحقيقي لتغذية ثقافة العنف والتطرف وكراهية الحجاب والإسلام، وستبقى البيئةُ الغربية حبلى بأمثال هذا القاتل المجرم، متى استمرّ الغرب على هذا المنهج المعادي للإسلام والمسلمين.